الشيخة القبلية والحكم القبلي وأهل الشيخة

بسم الله الرحن الرحيم
المشيخة أو الشيخة القبلية والعشائرية : يمثلها شيخ القبيلة أو العشيرة ؛ وهي عبارة مكانة اجتماعية موروثة ومكتسبة ، فالشيخ يرشح بالوراثة ولكنه ينتخب بما يتمتع به من خصال ، بحسب تلك الأعراف القبلية السائدة حينها ، وكانت المشيخة تمثل السلطة المشرفة وفق نظام قبلي يرتب العلاقة بين المشيخات سواء داخل القبيلة المستقلة عرفا أم بينها وبين القبائل الأخرى في حالات السلم والحرب والطوارئ .
وكانت بعض القبائل ذات المشيخات العريقة خاصة في نجد ؛ قد تشعبت إلى فروع عشائرية لها مشيختها وتشعباتها الخاصة ، وكأنها مستقلة عن الأخرى ، ولهذا وجدت مكانة تمثل الرابطة المركزية وتتجسد في شيخ الشيوخ أو شيخ الشمل أو شيخ كافة .. أو ، بحيث يكون زيزوم القبيلة ، وله زعامة حشودها وقيادتها في تلك الصراعات (المغازي) التي كانت تدور رحاها بلا هوادة في قلب جزيرة العرب ؛ والتي أهم محاورها الرجال والجمال والماء والكلأ والغنائم . ولا توجد مكانة قبلية محضة رفع منها ، بحيث مثلا تمثل أكثر من قبيلة مستقلة ، اللهم إلا في بعض المواقف التي تفرض على أكثر من قبيلة الدخول في تحالف لمواجهة خطر ما ، وهو غالبا ما ينتهي عمليا بانقضاء حاجته الوقتية . مثل يوم انضمت عدة قبائل في (حلف شبابة) بينما قبائل أخرى في (حلف خندف) .
ومكانة شيخ القبيلة أو العشيرة في مركزها وحقوقها وواجباتها مرتبطة بالقبيلة البدوية التي تقوم حياتها على نمط الترحال الموسمي أو الطارئ ، والتي يكون فيها الانتماء والولاء فقط للقبيلة وفي حدودها ، وهي في الغالب الأعم لا ترتبط بموطن معين ، وليست للشيخ أي أتاوات ثابتة على قبيلته ، بينما له ما يأخذه عرفيا على القبائل الأخرى في حالات وقتية معينة ، مثل (الخاوة) و(الرتاعة) أو غنائم الغزو .
الحكم العرفي: عندما تسيطر قبيلة معينة على منطقة جغرافية معينة لمدة طويلة من الزمن على أنها (المنطقة) عبارة عن ملكية جماعية لهذه القبيلة ، وتحت حمايتها ، بما فيها من طرق وقرى ومراعي ومياه وخلافه ، فإننا نجد هنا أن الانتماء يتحول مع الزمن إلى الارتباط بالمكان (وطني) قبل السكان (قبلي) وكذلك يتبعه الولاء ، مما يستدعي وجود سلطة مشرفة مناسبة ، وقد تمثلت بالحكم العرفي ، الذي يجسد كلا الانتمائين والولائين معا ، ويكون متواجدا بين أهل الوبر وأهل المدر ، أي مع الرحل من خلال إبله وعزوته ، وبين الحضر بقصره ومقر سلطانه .
والحاكم العرفي يكف سلطانه جميع شيوخ العشائر وأمراء القرى ؛ ضمن منطقة نفوذه ، وهو يضطلع من خلال (العوارف) وفقا للسلم العرفي بتنظيم العلاقات القبلية البدوية ، وعلاقات البدو بالحضر ، وهو مسئول عن حماية منطقة نفوذه أرضا وسكانا ، وتجبى إليه (الأتوات) بشكل مقنن وثابت تماما كما جباية (الزكاة) ولكن ربما بحسبة مختلفة .
ومن أمثلة الحكم العرفي التي كانت سائدة نجد (حكم الأشراف) وهم من (قبيلة قريش) ومركزهم مكة المكرمة ، منذ القرن الرابع الهجري ، ونفوذهم على (إقليم الحجاز) . ويوجد كذلك (حكم آل بقار) وهم من (قبيلة شمر) ، ومركزهم (قفار) ونفوذهم على (جبال شمر) شمال إقليم نجد ، وتعود بدايات عهدهم إلى القرن الثامن الهجري ، على أقل التقديرات ، كما نجد أيضا (حكم آل عريعر) وهم من (قبيلة بني خالد) ومركزهم (المبرز) ونفوذهم على (إقليم الأحساء) ، من بدايات القرن الحادي عشر الهجري ، حتى ضعف سلطانهم ، ثم سقط نهائيا بعد انتشار الدعوة الوهابية ، إبان تأسيس الدولة السعودية الأولى ، وذلك بعد هزيمة الشيخ زيد بن عريعر عام 1208هـ ، وقبلهم كان قد أسقط حكم آل بقار في جبال شمر ، عام 1205هـ ، وذلك بعد هزيمة الجناح الموالي لهم من شمر ، في معركة العدوة من قبل قوات إمام المسلمين ابن سعود . أما الأشراف فقد صمد حكمهم حتى عام 1343هـ بهزيمتهم أمام مد (الأخوان) قوات عبد العزيز بن سعود .
نعود إلى سؤالنا الذي بدأنا به عن منهم أهل الشيخة ؟! إذا كانت كل القبائل لديها شيوخ ومشيخات !! والكل لهم الحق في القول بأنهم من أهل الشيخة !
ومن هنا أقول : لقد كانت قبيلة عنزة الكبيرة من أشهر القبائل القليلة المعروفة بتعدد المشيخات الفرعية العريقة فيها ، وذلك ربما لأكثر من سبعة أفرع ، لهذا كان يطلق عليها قبيلة (سبع الجموع) وقد كان الشيخ ابن هذال يمثل (شيخ شيوخ عنزة) وهو (مقدم بني وائل) .
وكان قد حصل إبان بدايات نشأة إمارة الرشيد في جبال شمربعض النزاعات والمناوشات بين أهل القصيم تدعمهم عدة عشائر من قبيلة عنزة وبين بعض البلدان والعشائر الموالية لإبن رشيد ، وقد تطور الوضع حتى وصل قمته في عام 1257هـ ، عندما اجتمع أمراء أهل القصيم ومعهم غالبية شيوخ قبيلة عنزة والرولة و بحكم الكثرة قرروا غزو إمارة الرشيد في عقر دارها والقضاء عليها في مهدها ، وقد سارت الجحافل من البدو والحضر حتى اجتمعوا في الموقع المسمى بقعا وتقوم عليه مدينة بقعا شمال مدينة حائل حاليا ,
وتجاوزا للتفاصيل منذ أن قال أخو نورة الفارس الصنديد عبيد بن رشيد تلك القصيدة البطولية التي منها :
اضرب على الكايد إذا صرت بحلان
وعلى الولي وصل الحبل وانقطاعه
إلى أن قال ظافرا منتصرا قصيدته الرهيبة التي منها :
يا درانا من جاك جيناه عجلين=بالليل نسري والصفر والقوايل
فان كانهم عنا بالانشاد محفين=من الراس ما يحتاج رد الرسايل
حضر الجبل والبدو نلحق صليبين=يتلننا حملات سود الجدايل
.....
ومن فضل رب العرش عدل الموازين=صارت على (القصمان) واولاد (وايل)
...........
ربعي مروية السيوف المسانين=خلوا صفا بقعا من الدم سايل
واللي ذبحت بشذرة السيف تسعين=ايضا ولاني عن طردهم بسايل
........
جونا يبون ديارنا والبساتين=ويطرون منزلهم قفار وحايل
...........
واليوم يبغونه وحنا معيين=ننحى بحد السيف من جاه عايل
........
ربعي على حرب المعادي ضريرين=هم من قديم كاسبين النفايل
........
....إلى نهاية أبياتها ..
فقد دارة معركة بقعا الشهيرة ، وحسمت في نصف نهار ، بعد أن حلت بالغزاة تلك الهزيمة الكاسرة المنكرة ، حتى أصبح الناس بعد تلك المعركة يستعيرون لفظ (بقعا) للتعبير عن شؤم الكارثة التي حلت ، مثل قولهم : بقعا تلوعك ، ولاعتك بقعا ، وعساك لبقعا ونحو ذلك .
بعد حسم المعركة أمر الأمير/ عبد الله العلي الرشيد بنصب الخيام والاحتفال بالنصر الحاسم ، وفي الصباح فوجئ الأمير بخبر أن شيوخ عنزة والرولة المهزومين بالأمس يريدون وجاهه (مقابلته) في أمر ما ، كان الأمر فيه غرابة وقد لمح فيه ذلك الداهية (عبد الله) احتمال فرصة ذهبية سانحة لتجاوز ما قد ينطوي عليه أمرهم من إحراج بأن يكسبهم إلى جانبه أو يضمن حيادهم تجاه إمارته الواعدة .. المهم فقد أمر بدعوة الجميع إلى الصيوان العام وبعد أن حضر الأمير وجلس أمر بإدخال الشيوخ على الصيوان وعندما دخلوا ونظروا في وجه الأمير جثوا على ركبهم متذللين ومعتذرين عن موقفهم في حربه ..
هنا ؛ فز الأمير المنتشي بالنصر واقفا وقام الجميع عدا أولئك الشيوخ الكرام ضلوا جاثين على ركبهم .
قال الأمير وكأنه استلهم موقف رسولنا (ص) مع مشركي قريش يوم فتح مكة المكرمة : ارحموا عزيز قوم ذل وفينا جابر عثرات الكرام ، قفوا قفوا وقولوا ما تريدون ، وقفوا وقالوا بأنهم يريدون أن يتفضل عليهم الأمير بما تجود به نفسه من إبلهم وحلالهم الذي غنمه جيشه المنتصر.
قال الأمير اسمعوا : أنتم (أهل الشيخة) والأجواد كرام سبلا ومغذية اليتامى ، وإلا حنا خذيناه بحد هالسيف يقولها وهو يسل السيف ليشهره عاليا ، وينظر إليه يبرق على شعاع شمس الضحى ، ثم يسكت لحظات وكأنه مطرقا يقارن بين بريق هذا السيف بالأمس وهو في ساحة الوغى يخشى الموت والهزيمة وبين بريقه وهو الآن في صيوان النصر وألد أخصامه بالأمس هاهم اليوم أمامه في فرصة لا تعوض .
قال : أنتم الشيوخ ، مقداركم عالي ، وخطوتكم عزيزة ، ولا عندنا إلا حلالكم ، يا الله يا الله ، حالا ردوا عليهم كل حلالهم ، ولا يبقى لهم ولا حاشي ، ولو ضاع شيء منها أنا أعوضه من حلالي ، سكت قليلا .. ثم أردف : حنا ما جينا ندور بعارين ، حنا نبي حمر الأذاني (القصمان) واللي معهم ما عاد يعودون (بقعا) ..وقد حصل ما أراد (بعقود لؤلؤ ومرجان) .
والملاحظ أنه منذ ذلك اليوم وكأنه تم توقيع عقد صارم بين ابن رشيد وبين أولئك الشيوخ الأفاضل من عنزة بأن يحفظ لهم بن رشيد بخلاف متطرفي الوهابيين مكانتهم ومنزلتهم كشيوخ معتبرين على عشائرهم وليسوا طواغيتا كفارا مستباحين ، مقابل أنهم لا ينازعونه نفوذه وأن لا يناصرون مناوئيه من أهل القصيم أو غيرهم ، وهذا قد تم بالفعل اللهم إلا في حالات نادرة لا تذكر .
.. يا الله ، كيف كانت أثمان المواقف والوفاء بها عند أولئك الرجال من أسلافنا ؟! يا ترى ! أين نحن اليوم منهم ؟! أم أنها لو خليت خربت.؟! بأن لكل زمان دولة ورجال !
وتقبلوا تحياتي